سورة الشعراء - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)}
ويضيق وينطلق، بالرفع؛ لأنهما معطوفان على خبر إنّ، وبالنصب لعطفهما على صلة أن. والفرق بينهما في المعنى: أنّ الرفع يفيد أنّ فيه ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصب على أنّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة.
فإن قلت: في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جملتها نفي انطلاق اللسان. وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعاً، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت: قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به، على أنّ تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته. وقيل: بقيت منها بقية يسيرة.
فإن قلت: أعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ المعنى: إني خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسان.
قلت: يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها، ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به، ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهارون كان بتلك الصفة، فأراد أن يقرن به. ويدل عليه قوله تعالى: {وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً} [القصص: 34] ومعنى: {فَأَرْسِلْ إلى هارون}: أرسل إليه جبريل، واجعله نبياً، وآزرني به، واشدد به عضدي، وهذا كلام مختصر. وقد بسطه في غير هذا الموضع، وقد أحسن في الاختصار حيث قال: {فَأَرْسِلْ إلى هارون} فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى: {فَقُلْنَا اذهبا إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا فدمرناهم تَدْمِيراً} [الفرقان: 36] حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أوّلها وآخرها، وهما الإنذار والتدمير، ودلّ بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها، وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله، فأراد الله إلزام الحجة عليهم، فبعث إليهم رسولين فكذبوهما، فأهلكهم.
فإن قلت: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره الله بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله من ورائه؟ قلت: قد امتثل وتقبل، ولكنه التمس من ربه أن يعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته، فمهد قبل التماسه عذره فيما التمسه، ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر: ليس بتوقف في امتثال الأمر، ولا بتعلل فيه؛ وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل لا على التعلل.


{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)}
أراد بالذنب: قتله القبطي. وقيل: كان خباز فرعون واسمه فاتون. يعني: ولهم عليّ تبعة ذنب، وهي قود ذلك القتل، فأخاف أن يقتلوني به، فحذف المضاف. أو سمي تبعة الذنب ذنباً، كما سمى جزاءُ السيئة سيئة.
فإن قلت: قد أبيت أن تكون تلك الثلاث عللاً، وجعلتها تمهيداً للعذر فيما التمسه، فما قولك في هذه الرابعة؟ قلت: هذه استدفاع للبلية المتوقعة. وفرق من أن يقتل قبل أداء الرسالة، فكيف يكون تعللا. والدليل عليه: ما جاء بعده من كلمة الردع، والموعد بالكلاءة والدفع.


{قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)}
جمع الله له الاستجابتين معاً في قوله: {كَلاَّ فاذهبا} لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه الموازرة بأخيه فأجابه بقوله: {فاذهبا} أي اذهب أنت والذي طلبته وهو هارون.
فإن قلت: علام عطف قوله: {فاذهبا}؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه {كَلاَّ} كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظنّ، فاذهب أنت وهارون. وقوله: {مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} من مجاز الكلام، يريد: أنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه. فأظهركما وأُغلبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكسه. ويجوز أن يكونا خبرين لأنّ، أو يكون {مُّسْتَمِعُونَ} مستقراً، و{مَّعَكُمْ} لغواً.
فإن قلت: لم جعلت {مُّسْتَمِعُونَ} قرينة {مَّعَكُمْ} في كونه من باب المجاز، والله تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة؛ لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية. ومنه قوله تعالى: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً} [الجن: 1] ويقال: استمع إلى حديثه وسمع حديثه، أي: أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «منِ استمعَ إلى حديثِ قومٍ وهم لَه كَارهونَ صُبَّ في أذنيه البرمُ» فإن قلت: هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله: {إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} [طه: 47]؟ قلت: الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثم بمعنى المرسل فلم يكن بدّ من تثنيته، وجعل هاهنا بمعنى الرسالة فجاز التسوية فيه- إذا وصف به- بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر، نحو: صوم، وزور. قال:
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَبْرٌ الرَّسُو *** لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ
فجعله للجماعة. والشاهد في الرسول بمعنى الرسالة قوله:
لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُم *** بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
ويجوز أن يوحد، لأنّ حكمهما لتساندهما، واتفاقهما على شريعة واحدة، واتحادهما لذلك وللإخوة كان حكماً واحداً، فكأنهما رسول واحد. أو أريد أنّ كل واحد منا {أَنْ أَرْسِلْ} بمعنى: أي أرسل؛ لتضمن الرسول معنى الإرسال. وتقول: أرسلت إليك أن أفعل كذا، لما في الإرسال من معنى القول، كما في المناداة والكتابة ونحو ذلك. ومعنى هذا الإرسال: التخلية والإطلاق كقولك: أرسل البازي، يريد: خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهما. ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إنّ هاهنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه، فأدّيا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له: {أَلَمْ نُرَبّكَ} حذف: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، لأنه معلوم لا يشتبه.
وهذا النوع من الاختصار كثير في التنزيل. الوليد: الصبي لقرب عهده من الولادة. {ولبثت فينا من عمرك} وفي رواية عن أبي عمرو: من عمرك، بسكون الميم {سِنِينَ} قيل: مكث عندهم ثلاثين سنة. وقيل: وكز القطبي وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وفرّ منهم على أثرها، والله أعلم بصحيح ذلك.
وعن الشعبي: فعلتك بالكسر، وهي قتلة القبطي، لأنه قتله بالوكزة وهو ضرب من القتل. وأما الفعلة؛ فلأنها كانت وكزة واحدة. عدد عليه نعمته من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه، وعظم ذلك وفظعه بقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين} يجوز أن يكون حالاً، أي: قتلته وأنت لذاك من الكافرين بنعمتي. أو أنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة، وقد افترى عليه أو جهل أمره؛ لأنه كان يعايشهم بالتقية، فإنّ الله تعالى عاصم من يريد أن يستنبئه من كل كبيرة ومن بعض الصغائر، فما بال الكفر. ويجوز أن يكون قوله: {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} حكماً عليه بأنه من الكافرين بالنعم، ومن كانت عادته كفران النعم لم يكن قتل خواص المنعم عليه بدعا منه. أو بأنه من الكافرين لفرعون وإلهيته. أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونهم، يشهد لذلك قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ} [الأعراف: 127] وقرئ: {إلهتك}، فأجابه موسى بأن تلك الفعلة إنما فرطت منه وهو {مِنَ الضالين} أي الجاهلين. وقراءة ابن مسعود: {من الجاهلين}، مفسرة. والمعنى: من الفاعلين فعل أولى الجهل والسفه. كما قال يوسف لإخوته: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون} [يوسف: 89] أو المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. أو الذاهبين عن الصواب. أو الناسين، من قوله: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى} [البقرة: 282] وكذب فرعون ودفع الوصف بالكفر عن نفسه، وبرّأ ساحته، بأن وضع الضالين موضع الكافرين رَبئاً بمحل من رشح للنبوّة عن تلك الصفة، ثم كرّ على امتنانه عليه بالتربية، فأبطله من أصله واستأصله من سنخه، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل؛ لأنّ تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت، وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيداً. يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبداً. قال:
عَلاَمَ يُعْبُدُنِي قَوْمِي وَقَدْ كَثُرَتْ *** فِيهِمْ أَبَاعِرُ مَا شَاءُوا وَعُبْدَانُ
فإن قلت: (إذاً) جواب وجزاء معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازياً لك، تسليماً لقوله، لأنّ نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء.
فإن قلت: لم جمع الضمير في منكم وخفتكم؟ مع إفراده في تمنها وعبدت؟ قلت: الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8